كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والغَوْلُ: كلُّ ما اغتالك أي: أَهْلَكك. ومنه الغُوْلُ بالضم: شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ. ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال: غالني كذا. ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال:
مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ ** جميعًا وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ

وقال آخر:
وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا ** وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ

فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)}.
و: {قَاصِرَاتُ الطرف} يجوز أَنْ يكونَ من باب الصفةِ المشبهةِ أي: قاصراتٌ أطرافُهنَّ كمُنْطَلِق اللسانِ، وأَنْ يكونَ من باب اسم الفاعل على أصلِه. فعلى الأولِ المضافُ إليه مرفوعُ المحلِّ، وعلى الثاني منصوبُه أي: قَصُرَتْ أطرافُهُنّ على أزواجِهِنَّ وهو مدحٌ عظيمٌ. قال امرؤ القيس:
من القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ** من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا

والعِيْنُ: جمع عَيْناء وهي الواسعةُ العينِ. والذَّكَرُ أَعْيَنُ، والبَيْضُ جمعُ بَيْضَة وهو معروفٌ. والمرادُ به هنا بَيْضُ النَّعام. والمَكْنون المصُون مِنْ كَنَنْتُه أي: جَعَلْتُه في كِنّ. والعربُ تُشَبِّه المرأةَ بها في لَوْنِها، وهو بياضٌ مُشْرِبٌ بعضَ صُفْرَةٍ. والعربُ تُحبُّه. قال امرؤ القيس:
وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها ** تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلٍ

كبِكْرِ مُقاناةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ ** غَذاها نَمِيْرُ الماءِ غيرَ المُحَلَّلِ

وقال ذو الرمة:
بيضاءُ في بَرَحٍ صَفْراءُ في غَنَجٍ ** كأنها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ

وقال بعضُهم: إنما شُبِّهَتِ المرأةُ بها في أجزائِها، فإنَّ البيضةَ من أيِّ جهةٍ أتيتَها كانَتْ في رأي العينِ مُشْبهةً للأخرى وهو في غاية المدح. وقد لَحَظ هذا بعضُ الشعراءِ حيث قال:
تناسَبَتِ الأعضاءُ فيها فلا تَرَى ** بهنَّ اختلافًا بل أَتَيْنَ على قَدْرِ

ويُجْمع البَيْضُ على بُيُوْض قال:
بتَيْهاءَ قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ** قطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخًا بُيوضُها

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}.
قوله: {يَتَسَاءَلُونَ} حالٌ من فاعل {أَقْبَلَ} و{أقبل} معطوفٌ على {يُطاف} أي: يَشْربون فيتحدثون. وكذا حالُ الشَّرْبِ حيث يَجْلسون كما قال:
وما بَقِيَتْ من اللَّذَّاتِ إلاَّ ** محادثة الكِرامِ على المُدامِ

وأتى بقوله: {فأقْبَلَ} ماضيًا لتحقُّقِ وقوعِه كقولِه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50].
{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)}.
قوله: {لَمِنَ المصدقين} العامَّةُ على تخفيفِ الصادِ من التصديق أي: لَمِنَ المُصَدِّقين بلقاءِ الله. وقُرِئ بتشديدِها من الصَّدَقة.
{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}.
وقرأ العامَّةُ {مُطَّلِعُوْنَ} بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ.
{فاطَّلَع} ماضيًا مبنيًا للفاعل، افْتَعَلَ من الطُّلوع.
وقرأ ابنُ عباس في آخرين- ويُرْوَى عن أبي عمروٍ- بسكونِ الطاءِ وفتح النون {فأُطْلِعَ} بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضيًا مبنيًا للمفعول. و{مُطْلِعُوْنَ} على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصرًا أي: مُقْبِلون مِنْ قولِك: أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي: أَقْبَلَ، وأَنْ يكونَ متعديًا، ومفعولُه محذوفٌ أي: أصحابَكم.
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار {مُطْلِعُوْنِ} خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ، {فَأُطْلِعَ} مبنيًا للمفعول. وقد رَدَّ الناسُ- أبو حاتم وغيرُه- هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ، والأصل: مُطْلِعُوْي، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو: جاء مُسْلِميَّ العاقلون، وقوله عليه السلام «أوَ مُخْرِجِيَّ هم» وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ. وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك:
وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ ** أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح

وإليه نحا الزمخشريُّ قال: أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال: يُطْلِعُونِ. وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ. وذكر فيه توجيهًا آخر فقال: أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ، كقوله:
هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه

ورَدَّه الشيخ: بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه. لا يجوز: هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي قلت: إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ. وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ، وقولِ الآخر:
فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني ** وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ

وقول الآخر:
وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ ** صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ

قولان، أحدُهما: أنَّه تنوينٌ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ، وإنْ قلنا: إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ. والثاني: أنه ليس تنوينًا، وإنما هو نونُ وقايةٍ. واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه:
وليس بمُعْيِيْني

وبقوله أيضًا:
وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائبًا ** فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا

ووَجْهُ الدلالةِ من الأول: أنَّه لو كان تنوينًا لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعًا وجَرًَّا لالتقاء الساكِنَيْن.
ووجهُها من الثاني: أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله: والآمِرُوْنَه وفي قولِه:
ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه ** جميعًا وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ

فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعًا على حَدِّها. وقال أبو البقاء: ويُقْرأ بكسرِ النونِ، وهو بعيدٌ جدًا؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ. قلت: وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه، وخروجٍ عن القواعد، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة.
وقُرِئ {مُطَّلِعُوْن} بالتشديد كالعامَّة، {فأَطَّلِعَ} مضارعًا منصوبًا بإضمار {أَنْ} على جوابِ الاستفهامِ. وقُرِئ {مُطْلِعون} بالتخفيف {فَأَطْلَعَ} مخففًا ماضيًا ومخففًا مضارعًا منصوبًا على ما تقدَّم. يُقال: طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع، كأكْرم، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد.
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرُ الفعلِ أي: أُطْلِعَ الإِطلاعُ. الثاني: الجارُّ المقدرُ. الثالث- وهو الصحيح- أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال: طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه، فالهمزَةُ فيه للتعدية. وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في لوامحه فقال: طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر، وأَطْلَع إطلاعًا إذا جاء وأَقْبَلَ. ومعنى ذلك: هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل. وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير: فأُطْلِعَ الإِطلاعُ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي: أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك.
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال: قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ. وأمَّا قولُه: أو حرف الجرِّ المحذوف أي: أُطْلِع به فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا. لو قلت: زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ تريد: به أو عليه لم يَجُزْ. قلت: أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ، وإنما قال: بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ. ومعنى ذلك: أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعًا انقلبَ الضميرُ مرفوعًا فاستتر في الفعلِ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج.
{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)}.
قوله: {فَرَآهُ} عطفٌ على {فاطَّلَعَ}. وسواءُ الجحيمِ وَسَطُها. وأحسنُ ما قيل فيه ما قاله ابنُ عباس: سُمِّي بذلك لاستواءِ المسافةِ منه إلى الجوانبِ. وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدةَ: كنت أكْتُبُ حتى ينقطعَ سَوائي.
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)}.
قوله: {تالله} قَسَمٌ فيه معنى تعجُّبٍ، و{إنْ} مخففةٌ أو نافية، واللام فارقةٌ أو بمعنى إلا، وعلى التقديرين فهي جوابُ القسمِ أعني إنْ وما في حَيِّزها.
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)}.
قوله: {بِمَيِّتِينَ} قرأ زيد بن علي {بمائِتين} وهما مثلُ: ضيِّق وضائق. وقد تقدَّم.
وقوله: {أفما} فيه الخلافُ المشهورُ: فقدَّره الزمخشري: أنحن مُخَلَّدون مُنَعَّمون فما نحن بميِّتين. وغيرُه يجعلُ الهمزةَ متقدمةً على الفاءِ.
{إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)}.
قوله: {إِلاَّ مَوْتَتَنَا} منصوبٌ على المصدر. والعاملُ فيه الوصفُ قبلَه، ويكون استثناءً مفرَّغًا. وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ الموتةُ الأولى كانت لنا في الدنيا. وهذا قريبٌ في المعنى مِنْ قولِه تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وفيها بَحْثٌ حَسَنٌ وهناك إنْ شاء اللَّهُ يأتي تحقيقُه.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}.
وقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ} إلى قوله: {العامِلون} يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ كلامِ القائلِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الباري تعالى.
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}.
قوله: {نُّزُلًا} تمييزٌ ل {خَيْرٌ} والخيريَّةُ بالنسبة إلى ما اختاره الكفارُ على غيرِه. والزَّقُّوم: شجرةٌ مَسْمومة يَخْرج لها لبنٌ، متى مَسَّ جسمَ أحدٍ تَوَرَّم فماتَ. والتَزَقُّمُ البَلْعُ بشِدة وجُهْدٍ للأشياءِ الكريهة. وقولُ أبي جهلٍ- وهو من العرب العَرْباء- لا نعرفُ الزَّقُّومَ إلاَّ التمرَ بالزُّبْدِ من العِناد والكذب البَحْتِ.
{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)}.
قوله: {رُءُوسُ الشياطين} فيه وجهان، أحدهما: أنه حقيقةٌ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى الأسْتَن وقد ذكره النابغةُ:
تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها ** مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا

وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهًا برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلًا يُشَبَّه به. وقيل: الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ، ولهنَّ أعْراف. قال:
عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ ** كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ

وقيل: وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة:
مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها ** من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ

فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ.
والثاني: أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل. وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ، وإن لم يَرَه. والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية، كقوله:
ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ

ولم يَرَ أنيابَها، بل ليسَتْ موجودة البتةَ.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}.
قوله: {لَشَوْبًا} العامَّةُ على فتح الشين، وهو مصدرٌ على أصلِه. وقيل: يُرادُ به اسمُ المفعولِ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ {لَشُوبًا} بالضمِّ. قال الزجاج: المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب كالنَّقض بمعنى المنقوض. وعَطَفَ ب {ثمَّ} لأحدِ معنيين: إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم، فلذلك أتى ب {ثم} المقتضيةِ للتراخي، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ. وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و{مِنْ حميمٍ} صفةٌ ل {شَوْبًا}. والشَّوْبُ: الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه: شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي: خَلَطه ومَزَجَه.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}.
قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} استثناءٌ مِن المُنْذَرين استثناءً منقطعًا لأنه وعيدٌ، وهم لم يَدْخُلوا في هذا الوعيدِ.
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}.
قوله: {فَلَنِعْمَ} جوابٌ لقسَمٍ مقدَّرٍ أي: فواللَّهِ. ومثلُه قوله:
لَعَمْري لَنِعْمَ السَّيِّدانِ وُجِدْتُما

والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ أي: نحن.
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)}.
قوله: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} مبتدأٌ وخبرٌ، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه مُفَسِّرٌ ل {تَرَكْنا}. والثاني: أنه مُفَسِّرٌ لمفعولِه أي: تَرَكْنا عليه ثناءً وهو هذا الكلامُ. وقيل: ثَمَّ قولٌ مقدَّرٌ أي: فقُلْنا سلامٌ. وقيل: ضَمَّن معنى ترَكْنا معنى قلنا. وقيل: سَلَّط {تَرَكْنا} على ما بعده. قال الزمخشري: {وتركنا عليه في الآخِرين} هذه الكلمةَ وهي {سَلاَمٌ على نُوحٍ} بمعنى: يُسَلِّمون عليه تسليمًا، ويَدْعُوْن له، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك: قرأْتُ {سورةَ أَنْزَلْناها} وهذا الذي قالهُ قولُ الكوفيين: جعلوا الجملةَ في محلِّ نصبٍ مفعولًا ب {تَرَكْنا} لا أنه ضُمِّنَ معنى القول بل هو على معناه بخلافِ الوجهِ قبلَه، وهو أيضًا مِنْ أقوالِهم. وقرأ عبد الله {سَلامًا} وهو مفعولٌ به ب {تَرَكْنا} و{كذلك} نعتُ مصدرٍ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرَّة. اهـ.